كيف تؤثر لغتك على طريقة تفكيرك؟

كيف تؤثر لغتك على طريقة تفكيرك؟

منذ 8 سنوات

كيف تؤثر لغتك على طريقة تفكيرك؟

هل فكرت يوماً ما هي اللغة؟ وما الذي تعنيه بالنسبة لك ولكل بني البشر؟ يقول المفكر وعالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي Noam Chomsky إن أكثر الناس يُعرِّفون اللغةَ بأنها وسيلة للتواصل بين البشر وأنها تطورت وتفرعت إلى آلاف اللغات لتؤدي تلك الوظيفة الأساسية، لكن هذا مجرد خطأ شائع.\nصحيح أننا استخدمنا اللغة في التواصل بعضنا مع بعض، وهي بلا شك فائدة عظيمة لكنها ليست ما يميز اللغة ولا ما يمكن أن يصفها وصفاً علمياً دقيقاً. فاللغات بالأساس، طبقاً لتشومسكي، وسيلة للتعبير عن الأفكار ولخلق الأفكار أيضاً. أي أن استخدامنا للغة بعينها (كالعربية مثلاً) يؤثر على الطريقة التي نبني بها أفكارنا، وينعكس ذلك على واقعنا بشكل مادي ملموس ومباشر.\nتشرح أستاذة اللغويات في جامعة كاليفورنيا ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky الاختلاف الذي يمكن أن يحدث في أساليب التفكير من شخص لآخر بسبب اللغة الأم التي يتحدث بها، منبهةً إلى أن في العالم اليوم زهاء سبعة آلاف لغة، وأن كلاً منها تعكس طريقة مختلفة في التفكير ورؤية الأشياء.\nوتضرب مثلاً فتقول إن أغلب اللغات الحيّة تحدد اتجاهات الحركة بإيجاد علاقة بينها وبين الجسم البشري فتقول مثلاً لشخص يسألك عن أقرب مستشفى "تجده على اليمين بعد قليل". أنت تقصد هنا أن المستشفى هو إلى ناحية ذراع ذلك الشخص اليمنى. لكن هناك لغات أخرى مثل لغة السكان الأصليين لأستراليا تحدد الاتجاهات في كل شيء، كبيراً كان أو صغيراً، بالجهات الجغرافية الأصلية الأربعة. فيقول أحدهم مثلاً: "انتبه هناك نملة تمشي على ساقك الجنوبية". ولأن ذلك الشعب يتكلم بهذه الطريقة، فإن جميع أفراده حتى الأطفال يكونون على وعي تام بالطرق والإتجاهات دون بذل أي مجهود، بينما لو جربت أنت أن تسأل شخصاً حولك عن الشمال الشرقي فسوف يحتاج في الأغلب إلى بوصلة لتحديد ذلك.\nلكن هذا المثل، وإن كان يوضح الفكرة، قد يبدو بعيداً في أثره عن الحياة العملية. فلنلق إذن نظرة على ورقة بحثية رائعة قدّمها الأمريكي كيث تشين Keith Chen عام 2013 في جامعة ييل الأمريكية وأثبت فيها كيف أن اللغة التي نتحدث بها تُحدث الفرق ليس على مستوى السلوك الشخصي فحسب، ولكن أيضاً على مستوى الاقتصاد بالنسبة للدول.\nيُفرّق تشين في بداية بحثه بين نوعين من اللغات: الأولى هي اللغات المستقبلية، أي اللغات التي يفرّق أصحابها في حديثهم عادة بين الحاضر والمستقبل، فيُقال: "سوف أزور والدتي غداً"، ومن هذه اللغات العربية والإنغليزية واليونانية والإيطالية والروسية. أما النوع الثاني فهو اللغات غير المستقبلية، وهي التي يتكلم متحدثوها عن المستقبل عادة بصيغة الحاضر نفسها، ومنها الألمانية والفنلندية والصينية. فنقول مثلاً: "أزور والدتي غداً".\nهذا الفرق الضئيل في طريقة تركيب الجملة بين لغة وأخرى يتسبب بتباينات ملحوظة في أساليب الحياة بين الأشخاص والعائلات. وحسب الدراسة، فإن نسبة ما يدّخره الأشخاص من الأموال التي يكسبونها سنوياً في البلاد التي تتحدث لغات لا مستقبلية كان أكبر بشكل ملحوظ بالمقارنة مع البلاد التي تتحدث لغات مستقبلية، وكان هذا مؤثراً في الاقتصاد الكلي للبلاد. وبيّن أن العائلات التي تتشابه في جميع الظروف تقريباً وتعيش في البلدان نفسها تميل إلى الادخار بنسبة 30% أكثر إذا كانت تتحدث لغة لا مستقبلية.\nوالسر في ذلك، كما يعتقد تشين، أنك إذا كنت تتحدث عن المستقبل طوال الوقت بصيغة الحاضر فسوف يجعلك ذلك واعياً بوجوده مثل الحاضر تماماً، وبالتالي فإنك سوف تفكر فيه أكثر من الشخص الذي يفرق لغوياً بين الحاضر والمستقبل. فلدى الأخير، تنعكس هذه التفرقة على تفكيره وسلوكه، ويصعب عليه أن يتمثل المستقبل في ذهنه كما يعي الحاضر، وبالتالي يجد صعوبة في أن يختار التنازل عن بعض رفاهيته الشخصية في الوقت الحاضر ليدخر وينفق في مستقبل ليس له حضور قوي في ذهنه أصلاً.\nولم تقف أبحاث تشين عند الاقتصاد فقط، بل نجح في إيجاد صلة بين هذين النمطين من التفكير الناجمين عن طبيعة اللغة، وبين العادات الصحية. ومرة أخرى كانت النتائج تشير إلى صحة الفرضية وتؤكدها: فنجد أن ميل أصحاب اللغات غير المستقبلية إلى ممارسة الرياضة والحفاظ على لياقة بدنية جيدة أعلى بشكل ملحوظ من أصحاب اللغات المستقبلية. ويمكن تفسير هذا إذا نظرنا إلى التدريبات الرياضية التي تتطلبها اللياقة البدنية على أنها مشقة "في الحاضر" من أجل وضع أفضل "في المستقبل".\nوأخيراً نجحت فرضية تشين مرة أخرى في التنبؤ بنسب المدخنين في هاتين المجموعتين من الدول. فكانت أقل بنسبة ضخمة تصل إلى 24% عند أصحاب اللغات اللامستقبلية. والعلاقة كما يشرحها كيث تشين تنطلق من أن التدخين هو حصول على متعة في الحاضر مقابل ألم في المستقبل، أي أنه عكس فكرة الادخار تماماً.\nولدينا ملاحظة أخيرة لم تذكرها الدراسة، إلا أنها واضحة في كل الإحصاءات التي اعتمدتها وهي أن الدول الأكثر إبهاراً للعالم وقدرة على تحقيق معجزات اقتصادية في القرن الماضي هي دول تتكلم شعوبها لغات غير مستقبلية. ويبدو أنه بعكس اسمها، سوف يكون المستقبل أفضل بالنسبة لأهلها.\nصحافي مصري حاصل على إجازة في الأدب العربي والإنغليزي. شارك في لجان تحكيم عدد من المهرجانات الدولية للأفلام السينمائية والوثائقية.

الخبر من المصدر