مذكرات ساراماغو.. الأدب لخدمة الإنسانية

مذكرات ساراماغو.. الأدب لخدمة الإنسانية

منذ ما يقرب من 9 سنوات

مذكرات ساراماغو.. الأدب لخدمة الإنسانية

ومن ذلك القبيل كتب الحوارات النهريه التي يدفع فيها المحاور الضيف ليتداعي ويروي افكاره، كما فعل الكاتب الاميركي هنري ميلر او بورخيس، وكذلك حدث الامر مع جوزيه ساراماغو (1922-2010) الذي سبق ان كتب سيرته الذاتيه، لكن مفكرته الصادره في نسختها العربيه مؤخرا عن "دار دال" كشفت لنا شخصيه هذا "الوحش السردي" اكثر من تلك السيره الصغيره.\nجمع كتاب "المفكره" -الذي ترجمه عدنان حسن- مواد مدونه صاحب روايه "العمي"، وهي مدونه الكترونيه انشاتها له زوجته بيلار ديل ريو وصديقاه سرجيو وخافيير ليكتب عبرها افكاره وليتفاعل مع قرائه.\nويقول ساراماغو في مقدمه المدونه "لقد اخبروني انهم قد حجزوا لي فضاء مدونه وينبغي ان اكتب لاجلها تعليقات وتاملات، اراء بسيطه حول هذا وذاك، باختصار كل ما يخطر ببالي. لكوني اكثر انضباطا مما ابدو غالبا، اجبت بنعم، وبالفعل سافعل".\nهكذا نبتت المدونه من رغبه شخصيه التزم بها الكاتب الانضباطي الملقب بـ"الشيوعي العنيد" لتكون فضاءه للتعبير عن ارائه في السياسه العالميه والادب والادباء، وفي التاريخ والامكنه.\nورغم انه سبق ان استجاب يوما لطلب زوجته في كتابه مفكره لتدوين افكاره، وهو ما عرف بعد ذلك بـ"مفكرات لانزاروتي"، فان المدونه الالكترونيه بفضائها الافتراضي المجاني، والتي تسمح للقراء بان يتابعوا تلك الافكار في صيغها الاولي المتوحشه، اغرت صاحب روايه "مسيره فيل"، وانطلق يدون فيها هواجسه منذ سبتمبر/ايلول 2008 الي اغسطس/اب 2009، فشملت مئات الافكار واحتاجت اكثر من 360 صفحه لتجمع في كتاب.\nطغت علي المدونه، ودون قصد، المواقف السياسيه التي يعبر عنها ساراماغو يوميا، بحكم ثقافته السياسيه وايمانه بوظيفه الكاتب والكتابه ليكون له موقف والا يبقي في ربوه الحياد.\nوقد اهتم ساراماغو خاصه بالسياسه الدوليه التي تقودها الولايات المتحده كقوه مهيمنه اقتصاديا وعسكريا واعلاميا، وانتقد صاحب "الطوق الحجري" السياسه الاميركيه تجاه العالم والشرق الاوسط خاصه، واستغرب بمناسبه وصول جورج بوش الابن للسلطه من قبول الشعب الاميركي برؤساء بذلك القصور الفكري والاخلاقي كما يراه "اتساءل لماذا كان للولايات المتحده، البلد العظيم في كل شيء، في غالب الاحيان مثل هؤلاء الرؤساء الصغار".\nواعتبر الروائي البرتغالي ان جورج بوش الابن "اصغر الرؤساء علي الاطلاق"، ونعته بـ"الجاهل وبراعي البقر المثير للسخريه"، وانه "مدشن عصر الاكاذيب"، وانه نفذ حرفيا تعريف احد رؤساء البرتغال للسياسه باعتبارها "فن عدم قول الحقيقه".\nواعنف ما كتب ساراماغو عن السياسيين كان عن رئيس الحكومه الايطاليه برلسكوني الذي اطلق عليه عباره "الشيء"، قائلا "لا يمكنني ان اجد اسما اخر يمكنني اعطاؤه اياه. شيء قريب بشكل خطر من الكائن البشري، شيء يقبض علي الاحزاب، يقيم حفلات العربده، ويحكم ايطاليا. هذا الشيء، هذا الداء، هذا الفيروس الذي يهدد بالموت المعنوي لبلاد فيردي هو مرض عميق يجب ان يقتلع من الوعي الايطالي قبل ان يسري سمه في الاورده ويهلك قلب احدي اغني الثقافات الاوروبيه".\nكما لم يسلم اليسار الذي ينتمي اليه الروائي من النقد، بل لم يتردد في اعلان وفاته.\nنادرا ما اهتم الكتاب الكبار ببعضهم، ولكن يبقي تاريخ الادب شاهدا علي ذلك السمو الذي يظهر به بعض العظماء من الادباء في تناول اعمال اصدقائه او شخصياتهم.\nوقد كتب ماريو فارغاس يوسا العشرات من المقالات المهمه في روايات غيره من الروائيين، اما غابرييل غارثيا ماركيز فقد دفعه اعجابه بروايه "الجميلات النائمات" للياباني كواباتا الي كتابه روايه بنفس الموضوع ونفس الحجم بمناخاته الخاصه في روايته "ذكريات غانياتي الحزينات"، الي جانب مقاله الشهير عن روايه كواباتا.\nوتكشف لنا مفكره ساراماغو انه لا يتردد في مدح زملائه وتقديمهم في بورتريهات عاشقه، فكانت المفكره فضاء قدم فيه رفيقه جورج امادو وكارلوس فوينتس وفرناندو بيسوا وبورخيس وكارلوس كاساريس وساباتو وجان جيونو ومحمود درويش وغيرهم من الكتاب الذين كان ساراماغو يقرا لهم.\nما يلاحظ في هذه المفكره الجامعه ان ساراماغو كان منشغلا بالاخرين اكثر من نفسه، فكلما دفعه الحكي الي ذكر نفسه او احد اعماله طلب من القرّاء في اسلوب لطيف مستسمحا اياهم ان يذكرها في جمل اعتراضيه قصيره لتبقي التدوينه خاصه بالاخر.\nوانتزع محمود درويش في ذكري وفاته الاولي اجمل نصوص ساراماغو، فقد شبهه بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا ووصفه بـ"العظيم"، واتهم العالم بالغباء لانه لم يعرف جيدا درويش.\nقال ساراماغو "لو كان عالمنا اكثر حساسيه وذكاء، واكثر وعيا للجلال السامي للارواح الفرديه التي ينتجها، لكان اسمه الان معروفا علي نطاق واسع ومثار اعجاب مثلما كان، علي سبيل المثال، اسم بابلو نيرودا". هكذا اذا تنهض تدوينات ساراماغو في الادب والفن رقيقه وناعمه من ناحيه، وعميقه مقارنه بتلك التدوينات الساخطه في السياسه والسياسيين التي يظهر فيها ساراماغو بوجهه السياسي والمعارض الضاري الذي لا يتردد باسلوبه التهكمي في ازدراء خصومه والتنكيل بهم بالكتابه.\nمثّلت فلسطين احدي اهم القضايا التي اهتم بها صاحب روايه "البصيره". فرغم رفضه من حيث المبدا للعمليات الانتحاريه/الاستشهاديه الا انه حمّل اسرائيل مسؤوليتها. وكتب ساراماغو "اسرائيل امامها الكثير لكي تتعلمه اذا كانت غير قادره علي فهم الاسباب التي يمكن ان تؤدي بكائن بشري الي ان يحول نفسه الي قنبله بشريه".\nويخصص الاديب البرتغالي الكبير في هذه السيره الفكريه مدونات كثيره للتعبير عن وقوفه مع غزه وتجريم اسرائيل التي تعتدي علي المدنيين وتحطم بيوتهم، كما اتسعت المدونه لفتح قضايا شائكه كالتمييز العرقي والعنصري.\nويبقي ما قاله ساراماغو في محمود درويش من النصوص التي لا تنسي تقديرا للادب العربي المعاصر وللقضيه الفلسطينيه "قراءه درويش، اضافه الي كونها تجربه جماليه لا تنسي هي الركوب علي متن "طريق الالام" علي امتداد الطرق المنكسره للظلم والسلوك المخزي، عبر الاراضي الفلسطينيه التي عانت بوحشيه علي ايدي الاسرائيليين".

الخبر من المصدر