القاهرة: مدينتى وثورتنا «٢٠»

القاهرة: مدينتى وثورتنا «٢٠»

منذ ما يقرب من 9 سنوات

القاهرة: مدينتى وثورتنا «٢٠»

في طريقي الي التحرير. العائله كلها هناك. صار تقليدا: الجمعه والثلاثاء مليونيات. الجمعه الماضيه ٢٨ يناير، كانت «جمعة الغضب»، واليوم «جمعة الرحيل» ــ رحيل مبارك نامل. وصار تقليدا ايضا ان صلاه الجمعه في التحرير يعقبها قداس ــ ويشترك المصلون جميعا في ترديد «امين». الشيخ مظهر شاهين، امام جامع عمر مكرم، الشاب يعبر عما يشغل الناس، ويربط بين اعمالنا والقيم الروحيه. يوجه خطابه للـ«مصريين»، ويذكر، فيما يذكر، قدوه السيد المسيح. يختم الصلاه بـ«اللهم ثبتنا! اللهم اعد لنا حقوقنا! لا نريدها حربا بل نريدها سلاما! اللهم فاشهد اننا نحب هذا البلد ونحب ترابه. اللهم اعد لنا كرامتنا! اللهم وحدنا! اللهم احقن دماءنا!».. ولا تهدر امانينا المشتركه في ارجاء الميدان.\nالقضايا التي نحاول حسمها في شوارع مصر قضايا تهم العالم اجمع، واكثرها الحاحا اليوم: هل يمكن لثوره شعبيه، تصر علي ان تكون ديمقراطيه، قاعديه، جمعيه، سلميه ــ هل يمكن لها ان تنجح؟\nوفود جاءت من مختلف مدن ومحافظات البلاد. عطل النظام القطارات، لكن الناس وصلت علي اي حال. اعلام ورايات من الاسكندريه واسيوط والبحيره وبورسعيد وسوهاج والسويس وغيرها ترفرف في الميدان، والهتاف يملا الفضاء: «الشرعيه من التحرير».\nبقي البلطجيه في الشوارع الجانبيه. الشباب يحمون الميدان، فالميدان يوفر اليوم، كما وفر في كل يوم لم يكن فيه قتال ــ يوفر مساحه للتلاقي والنقاش. افكار كثيره تتبلور وتناقش؛ الاكبر سنا في الاغلب لازال عندهم امل في الديمقراطيه، يتشوقون الي الانتخابات الشفافه النزيهه، الي الحكومه التي تمثل الشعب، الي كل ما تمنوه طيله اعمارهم. اما الشباب فبعضهم يقول ان هذه المرحله قد انتهت، انتهت بالنسبه للعالم كله، ان صيغ الديمقراطيه القديمه لم تعد مناسبه او مجديه، ان في العشرين سنه الماضيه اتت كل الحركات الفعاله من خارج الاطر التقليديه، وان الهياكل والانماط الجامده للدوله من جانب والقوه المتحركه والمنسابه لراس المال من الجانب الاخر لا يمكن ان يتعايشا بدون ان يؤدي هذا الي القمع.\nما يحدث في التحرير الان هو عكس «الخواء السياسي»، عندنا سوق من الافكار والنظريات والاراء. الميدان حافل بالامل وبالافكار، وشبابنا الشهم يؤمنه ويحميه.\nيختطفون الناس من حواف الميدان. شاباتان من الناشطات حاول البلطجيه اختطافهما، فتدخل ضباط من القوات المسلحه وانقذوا الشابتين وهربوهما في سياره اسعاف. سته من النشطاء اختفوا تماما.\nليتني استطيع ان ابقي في الميدان طول اليوم، لكن علي ان اقوم بالكثير من اللقاءات والحوارات. لا اكف عن الحديث. سئمت صوتي، وهو علي كل حال قد تعب وصار من الصعب سماعه. احمد الله علي غياب قواعد المرور وشرطه المرور. اقود السياره من اقصر طريق واتركها في اقرب نقطه وادخل المكان جريا واتحدث ثم اجري خارجه وابدا من جديد.\nاقرا شهاده صديقنا ميسره: اختطفه البلطجيه في شارع طلعت حرب، لكن الذي ضربه كان الجيش، وفي المتحف المصري. نقلوه من مكان لاخر في سياره اسعاف وكانوا يضربونه داخلها. يقول ان ليس كلهم ظالمون او مفترون، وانهم بالفعل يعتقدون ان الثوره يحركها عملاء لقوي خارجيه.\nيصلنا ايضا تاريخ مفصل لسيره حياه نائب الرئيس الجديد ورئيس المخابرات المزمن، اللواء عمر سليمان، ومسيرته المهنيه. يفصل التاريخ تورطه الواسع والشخصي والعميق في التعذيب. الميدان بالطبع يعرف كل شيء: «لا مبارك ولا سليمان، مش عايزين عملاء كمان».\nلا اخبار بعد عن احمد سيف وزملائه، او بالاصح نعرف ان المخابرات العسكريه تحتجزهم ولا نعرف شيئا اخر. اثناء اختطافهم ترك احدهم محموله مفتوحا وعندنا الان نص لما سجله؛ مره اخري الاتهامات بالعماله والجاسوسيه: «اذا طلعتوا الشارع دلوقتي الناس هتقتلكم، هم عارفين انتو ايه».\nاحتاج ان اذهب للميدان لترتفع روحي المعنويه، لكن الوقت لا يسمح. انهي الحديث مع البي بي سي العربيه، واسرع الي البيت لاستقبال فريق قناه تليفزيون هنديه. كنت قد اقترحت ان اذهب اليهم في فندقهم، في الماريوت، لكنهم قالوا انهم هددوا وقيل لهم ان الفندق عنده تعليمات بالا يسمح لهم بالتصوير. لست مرتاحه لكني ارحب بهم، بعد دقيقتين يرن جرس الباب مره اخري، افتح الباب فاجد ابنه البوابه تسالني من السيدات اللاتي دخلن عندي؟ لا اكاد اصدق السؤال. اجيب باختصار: «ضيوف.» تقول «ده بيتك طبعا بس المباحث لفوا علي الشارع وبيسالوا مين عايش في كل شقه وبيسالوا عن الاجانب وعن اي حد بيتعامل مع الاعلام واحنا لازم نبلغهم لو فيه اجانب او لو فيه اعلام جه هنا. ضيوفك حتقعد قد ايه؟» اقول «هيقعدوا علي قد الزياره». «اغلق الباب واقدم لهن الشاي واطلب عمر في التليفون فيقترح ان نبيت عند اخي الليله. حين ننتهي من التسجيل اطلب من الشابتين ان تنتظرا». «اجمع حاجاتي الضروريه في حقيبه صغيره واغادر معهن. هذا البيت بيتي منذ كنت في السابعه، والان، للمره الاولي، اشعر فيه بالقلق والغربه».\nعامل الجراج يضطر الي تحريك سياره الدفع الرباعي مره اخري. اعتذر واقول اني لم اكن انوي الخروج ولكن عندنا ظرفا عائليا ولن اعود الليله. ادير الموتور ويتصل بي برنامج «الديمقراطيه الان» فعندي لقاء مجدول معهم. لا اريد ان احادثهم وانا اقود السياره في ظلام حظر التجول. اجلس في السياره في مدخل الجراج المعتم واحادث الناشطين الامريكيين لمده ساعه.\nصوره ابيض واسود صغيره مشققه: اسره ابي منتشرون علي المدرجات الخضراء لحديقه الاندلس. شيء يشدني الي هذه الصوره: جدتي، نينا بابا، في بالطو داكن محافظ تجلس علي النجيله، ساقاها ملمومتان باناقه، وتجلس ابنتاها كل واحده الي جانب منها. ابي الصغير، يداه في جيبي بنطاله القصير، يقف علي مسافه من الجماعه ومنفصل عنها، مترفع عنها قليلا في ذلك الوضع الذي سيلازمه مدي الحياه. كانوا هناك، علي تلك الدرجه المقابله لي وانا اجلس مع عمر نتشارك في دكه مشمسه.\nنحن هنا فتره وجيزه، ابني وانا، لحظه ماره اقتنصناها حين قلت، وهو يوصلني من سيارتي الي التحرير «ممكن ندخل هنا دقيقه؟ متهيالي ماجيتش هنا من لما كان عندي عشر سنين.» قال «طبعا»، والقي نظره سريعه الي شاشه محموله. نمسك باكواب الشاي الساخن ونتشارك ــ ونعرف ان هذا خطا ــ في سيجاره. احمد شوقي، امير الشعراء، في تجسد من الحجر الجيري يجلس متفكرا الي يميننا. النيل يجري وراءنا، والشمس تدفؤنا، ونتحدث عن الحفلات الموسيقيه والعروض السينمائيه التي يمكن ان تقام في هذا المكان. الان كل شيء ممكن، هذه هي درجه الثقه التي نتمتع بها، كل شيء ممكن، المساله مساله وقت، ربما ساعات. في السنوات العشرون الاخيره كان الشعور الذي يغلب علي كلما مريت بحدائق الاندلس هو الخوف؛ الخوف من ان احد المقربين من النظام سيتمكن من الاستيلاء عليها واستغلالها كما استغلوا اراضي ومناطق وبحيرات. كنت ابحث عن علامات تدل علي التجديد او الاهتمام، وارتاح حين اري لافته البلديه القديمه المتربه لازالت في مكانها. اليوم اختفي هذا الخوف واجدني احلم بحفلات الموسيقي، حفلات تقام بالناس وللناس في مدينتنا التي استعدناها.\nعمر يجيب علي هاتفه. لو نزلت الدرجات التسع الي هذه الباحه المسرحيه الجميله ثم مررت خلال حوض النافوره المستطيل وصعدت ست درجات علي الناحيه الاخري ساكون بالضبط في مكان جدتي، والي جانبي ابي الطفل. صوره ابيض واسود صغيره مشققه. منذ طفولتي وهي تجتذبني: ها هي الحديقه مميزه مالوفه لم تتغير، فيما عدا ان فيها كان يقف ابي طفلا. هناك صور اخري لابي، في زي الكشافه بالصحراء، او مع اسرته امام الاهرامات، او في مركب علي خلفيه النيل. لكن هذه الاماكن كانت من المعطيات، اجزاء دائمه من حياتي، اعرف انني اتشارك فيها مع الدنيا كلها منذ بدء التاريخ. هل هذا هو اذا؟ ان هذا الركن الصغير المركب المحدد جدا من منطقتي في مدينتي يظل علي هذه الدرجه من الثبات في حين اني اري التغيرات الضخمه في الاربعه اشخاص المصورين علي خلفيته؟ جدتي، نينا، عجوز وصارمه منذ عرفتها ومع ذلك ــ ها هي ذكري: انا اتلاكع وراء ظهرها في مطبخ شقه عابدين، وهي امام الموقد تسوي لي سد الحنك، تحمر الدقيق والسكر بسرعه في الزبد ثم ترص سد الحنك بالملعقه علي شكل بتول زهره في طبق صغير. اكله في الشرفه الصغيره التي منها اري القصر الذي يصور ايضا في الكتاب المدرسي المفتوح امامي. ها هي الاسوار الحديديه ووراءها المبني المترامي الاطراف، وبين السور والقصر الحوش ــ هو خالٍ الان لكنه في كتابي مليء بالناس: الي اليسار يقف الخديوي توفيق، يحفه من الجانبين السير تشارلز كوكسن والسير اوكلاند كولفن، والي اليمين في مواجهته حشد من قوات الجيش المصري، البعض مترجل والبعض علي خيولهم. علي راسهم يقف احمد عرابي وهو في لحظه اعاده سيفه الي غمده. اقرا عنوان الصوره: «لسنا عبيدا لاحد ولن نورث بعد اليوم، ١٨٨١». قالوها من مائه وعشرين عاما، ونقولها مره اخري اليوم.

الخبر من المصدر