المحتوى الرئيسى

عادل السيوي.. شاعر البورتريه

03/27 03:37

مثل طائر محلق عالياً، بغته، يهبط الي الارض، في لحظه خاطفه يلتقط شيئاً لا نراه، تتحول الريشه الي مخلبَي صقر تمسّك بحسم الوجوه المتجوله، بيننا.

لوحه اثر لوحه، من الوانها تنهمل الشخوص، الوجوه، العيون، انه فن التقاط تلك الاشياء التي تتقد اليوم، وقريباً تذوي.

عادل السيوي، اذا ما ازاح نظارته الشمسيه ستلحظ عينين ذكيتين، ستتاكد من انه ذلك الفنان الذي يعرف ويكتشف كل ما حوله، تحديداً تلك الاشياء الغامضه.. وكل ما سيكون لوحهً فريده ذات يوم.

كل شيء في القاهره جدير بالزياره، والاعجاب، لكن، الدهشه ستضرب لك موعداً فريداً اذا ما اتيح لك زياره مرسم الفنان المصري، العالمي عادل السيوي القريب من طلعت حرب، حيث بناء قديم يختصر بهندسته وزخارفه سيره زمنيه تكاد تقارب المئه عام. المصعد الخشبي العتيق الطراز، سيحملك فيما تراودك شكوك في قدرته علي الصعود حتي الطابق الرابع، حيث مرسم السيوي في شقه مؤثثه وفق مزاج فنان محكوم بحنينه لسحر السنين السالفه. الاثاث، اللوحات، المرايا، الكتب، الشرفات الصغيره وكل تلك الاشياء التي تشي بذائقه خاصه وفريده يمتلكها عادل السيوي.

القط الاسود المبقع بلطخ غريبه من الابيض والذي يسمّيه عادل: «ميرو» نسبه للفنان خوان ميرو، سيعثر علي طريقه قبل خطواتك صوب اللوحات، «ميرو» لن يكون مرحّبا، بسبب تلك الطباع التي تملكها «السنوريات» سيُشعرك انك تتلصص علي عالمه، حيث اللوحات الكبيره التي يُعدّها عادل السيوي لتكون لوحات معرضه المقبل.

اصفر ساطع كشمس لاهبه مع امواه خضراء طحلبيه تشكل عالماً متخيّلاً لخيالات رجل بملامح فيل. جرّب واسال عادل السيوي عن سرّ رسمه لرجل يرتدي بذله رسميه فيما يبزغ من وجهه خرطوم طويل ونابان عاجيان، سيجيبك السيوي بحكايه. متاح لنا ان نسمع الحكايه، مثلما متاح لنا ايضاً ان نخترع حكايتنا الخاصه وفق مخيلتنا وذاكرتنا وتصوراتنا فنقرا حكايه مختلفه عن تلك التي يرويها السيوي، هذا هو الفن. ان يُحيلنا الي مرتبه العقل والتفكير فهو ليس مجرد تقليد واستنساخ للطبيعه، انه ذلك العالم المجنون الذي يسمح لنا بالتقاط بعض الصور من الاف الصور التي عبرت خيال الفنان والتي لا يمكن استعادتها الا بالرسم.

اللوحه الاخري التي يُبهرنا ازرقها النيلي، هي لوحه الرجل الجدي، لكن هذا الرجل الغريب الذي شكّلته مخيله السيوي يحمل الوان القط الذي يجول في مرسمه «ميرو». رجل يخطو خطوه متثاقله ومستسلمه يرتدي بذله زرقاء بغايه الاناقه، بينما يحمل راس جدي لكن بالوان وذيل هر؟!

السيوي الذي هجر الطب النفسي والعمل في مستشفي العباسيه ليخلص للفن، يعرف تماماً ان الرموز مفاتيح اساسيه لفهم مفارقات الحياه وتناقضاتها، وبالتالي تحويلها الي ظاهره فنيه وجماليه جديره بان تُعاش ويُعمل في اطارها.

بينما يتاهّب لاطلاعك علي لوحه جديده، يمكنك ان تسترق النظر الي جدران المرسم المزدانه برفوف مزدحمه بالكتب. التاريخ والفن والادب وكل ما يمُتّ للفنون الجميله بصله. للشعر مكانه خاصه ونحن نعرف انه عمل علي ترجمه المؤلفات الكامله للشاعر الايطالي جوزيبه اونغاريتي، ترجمها مباشره من الايطاليه.

السيوي يعرف ان الشعر يعيد للغه قدرتها علي تسميه الاشياء، ودعوتها لان توجد، ستكتشف حجم ثقافته، جرّب ان تذكر اسم اي روايه لتكتشف مباشره انه قراها.

الفن، يمكن ان يُقرا في الشعر، ويُشاهَد في اللوحات، ويمكن ان يُسمَع بصوت ام كلثوم. صوت ام كلثوم يعزله عن العالم، لا يرسم من دون ان ينداح صوتها في مرسمه، ينعشه صوتها، فيما تشتعل براكينه كلها، وبصوتها يسيّج عالمه الخيالي اللامتناهي حيث الصور الملتهبه، وفي تلك اللحظه الحاسمه مع الاسراف الوحشي للصور سيلتقط الومضه التي ينتظرها، ويرسم.

يحكي السيوي عن معرضه المقبل وهو يطلعنا علي لوحه جديده هي (الرجل الاخطبوط)، حيث ثمه مساحه مشرقه متلاشيه لمصلحه الرجل المخضر اللون والذي يحلّ مكان جسده، اخطبوط مع مجسّاته الثمانيه، فتبدو اللوحه تدويناً متلهفاً للحظه القائمه، لحظه الهواجس المتراكمه، حيث خبث الاف الظنون التي تبدّد الفرح اليومي المحتمل، في الازمان المتغيره. كل لوحات السيوي مفتوحه علي عالم التاويل.

بينما يزيح لوحه ليُطلعنا علي لوحه اخري سيحدثنا عن واحه «سيوه»، عن الاسكندر وهو يعبر تلك الرمال الشاسعه ليصل سيوه ويطلب مباركه الرب امون، وعن جيش قمبيز الغارق برمال تلك الصحراء. بينما تاخذنا حكاياته الثريه التي لا تخلو من روح التهكم صوب الصحراء او ايطاليا او موقع معركه امبابه، او عن رواد مقهي ريش، سنجد انفسنا امام لوحه ساحره لعائله من الضباع. ستجد نفسك وسط ادغال وحشيه، كل تلك الظلال المعتمه التي تميّز الغابات، الضباع تروم شيئاً غامضاً، لكنها تظل وحوشاً بريه يمكن ان تنقض عليك من اللوحه وتلتهمك بلحظه غفله.

فجاه نلمح فان كوخ، بلحيته الشقراء الباهته عائماً وسط اصفره المفضل مع اخضره، تحيطه غمامه من اللونين الاخضر والاصفر. اما لوحته التي تتضمن راس ثور علي ارضيه صفراء فيما يقف بمواجهته انسان اعزل، هنا ثمه رؤيه سيكولوجيه، راس الثور مهيباً ووحشياً مثل وثن ادغال، مثل طوطم غامض من عهود سحيقه.

غزاله البر، سنراها علي ارضيه زرقاء فيها الكثير من السكون الفخم. ايضاً لوحه يتوسّطها قرد يستمع للموسيقي امامه جهاز كرامفون.

كل خط يمتلك معناه الخاص ولكل لون دلالته المفتوحه بتكاثفه وتشابكه وامتزاجه مع غيره من الالوان.

يقول اونغاريتي (بين زهرهٍ قُطفتْ/ واخري اُهدِيَتْ/ عدمٌ/ لا يمكن التعبير عنه). هذه العباره ذاتها ترجمها السيوي من اللغه الايطاليه، ايضاً ترجمها بكل ما رسمه ولوّنه بريشته.

عُرِفَ عن السيوي ولعه بالبورتريه، بتلك الاسرار التي لا تقولها الوجوه مباشره، انما تسرّبها. بعنوان «نجوم عمري» سبق وان قدّم السيوي معرضاً تضمن «بورتريهات» للفنانين القدامي مثل ام كلثوم، اسمهان، شاديه، وعبد الحليم حافظ، رشدي اباظه، سعاد حسني، اسماعيل ياسين..

من رسم تلك «البورتريهات» يعرف انه هنالك ثمه نظرات، ماطره او جافه او شمس لاهبه، او عاصفه متقده، وان هنالك نظرات تنبئ عن قلب وثاب، او تشي بالاستعداد المضني للحب. او نظرات نري فيها صدوع القلب، او غضون الحزن الدقيقه المتواريه وراء وجوه شابه. ايضاً هنالك وجوه حزينه ومتحدّيه مثل غابه تجلدها الريح، وهنالك تلك العيون التي تخشي من خريف يقضم اخضر الشجر.

الاكثر ناياً خلف الوجوه، نراه او نلمحه في بورتريهات السيوي.

ثمه وجوه تهجع، تنام.. وحدها عدسه الفنان توقظها بضربه فرشاه.

وتقتنص تلك الملامح التي لا تظهر في الصور الفوتوغرافيه.

يمكنك ان تشرب القهوه وتسمع السيوي يحكي ويروي مع سيجارته ونظرته البعيده الغور.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل