قراءة في عوامل نجاح التجربة الإصلاحية المغربية الراهنة

قراءة في عوامل نجاح التجربة الإصلاحية المغربية الراهنة

منذ 9 سنوات

قراءة في عوامل نجاح التجربة الإصلاحية المغربية الراهنة

مع نهايه سنه 2014 وقدوم سنه 2015 توالت تقارير دوليه ووطنيه - متعدده المصادر - تبشر المغاربه بتحسن الاوضاع الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه، وانعكس ذلك في استطلاعات الراي الاخيره والتي اكدت ارتفاع منسوب الثقه في التجربه الاصلاحيه التي انطلقت في المغرب منذ ثلاث سنوات خلت، حين استقبل المغاربه - في عمومهم - رياح الربيع الديمقراطي بطريقه خاصه اطرها شعار "الاصلاح في ظل الاستقرار"،  ورسمت هذه التقارير صوره ايجابيه عن المغرب اُضيفت الي معطيات اخري ذات اهميه بالغه اهمها تراجع اسعار البترول في الاسواق العالميه وبروز معالم سنه فلاحيه جيده.\n ومن اهم هذه التقارير الجديره بالملاحظه، ذلك الذي صدر عن مؤسسه "Héritage" بشراكه مع صحيفه "وول ستريت" الذي اكد ان المغرب يتقدم بـ 14 رتبه في مؤشر الحريه الاقتصاديه العالمي، اذ احتل الرتبه 89 عالميًا من اصل 178 دوله في مؤشر الحريه الاقتصاديه العالمي لسنه 2015، عوضًا عن الرتبه 103 التي سجلها خلال السنه الماضيه، كما صنف المغرب ايضًا في المرتبه التاسعه من اصل 15 بلدًا في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، بعد ان كان يحتل المرتبه العاشره سنه 2014، فيما حافظ علي المرتبه الاولي علي مستوي المغرب العربي. \nوحسب نفس التقرير فان التزام المغرب بالاصلاحات الاقتصاديه العميقه والاصلاحات الهيكليه مكّن من تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتسجيل تحسن كبير في حريه التجاره، فضلاً عن تحقيق مكاسب في محاربه الفساد وتحرير قطاع الاعمال؛ مما نتج عنه تطوير اقتصاد حديث وتنافسي.\nكما نجد تقرير اخر للمؤسسه البريطانيه "اكسفورد ايكونوميكس" - وهي مؤسسه تاسست منذ سنه 1981 وتراقب اقتصاد 200 دوله -، يتوقع ان يحقق الاقتصاد المغربي نسبه نمو تصل الي 4.3 في المائه، مقارنه مع 2.3 في المائه العام الماضي، وتحقيق معدل 5 في المائه سنه 2016، وتوقع التقرير ذاته ان يتراجع عجز الميزان التجاري بالمغرب الي 4.2 في المائه من الناتج المحلي الاجمالي في العامين الجاري والمقبل، مقابل 5.4 في المائه في العام الماضي، وذلك بفضل تراجع اسعار النفط باكثر من 50 في المائه في الشهور الماضيه، واعتبرت المؤسسه سنه 2015 هي سنه بنكيران (رئيس الحكومة المغربية).\nومن جهته اصدر البنك الدولي تقريره حول الافاق الاقتصاديه العالميه، والذي جاء اكثر تفاؤلاً من التقرير السابق حين توقع ان يبلغ معدل النمو الاقتصادي بالمغرب 4.6 في المائه سنه 2015، بدل 3 بالمئه السنه المنصرمه، ليصل الي 4 في المائه سنه 2016، و4.5 في المائه سنه 2017.\nوسار مكتب الدراسات البريطانيه "كابيتال ايكونوميك" علي النهج نفسه، اذ توقع نموًا اقتصاديًا كبيرًا في المغرب، علي الرغم من تاثر الاعوام الماضيه بتداعيات الازمه الاقتصاديه العالميه.\nوحسب مؤشرات المكتب، فقد ارتفعت صادرات المغرب، وارتفع عدد السياح الوافدين اليه، وسيؤثر تراجع اسعار النفط عالميًا علي معدل النمو، علي اعتبار ان المغرب توقع في ميزانيه السنه الجاريه ان اسعار النفط لن تقل علي 100 دولار للبرميل، في حين ان التوقعات تشير الي انها ستواصل التراجع خلال العام الجاري الي حوالي 39 دولارًا للبرميل.\nوعلي المستوي المحلي اكد المركز المغربي للظرفيه الاقتصاديه - الذي يراسه لحبيب المالكي، احد رموز حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض حاليًا بالمغرب - هذا التفاؤل  في نشرته الاخباريه الاخيره، حيث اكد ان الفرضيات المتعلقه بالعوامل الرئيسيه لاستباق النشاط الاقتصادي، سواء البيئه الداخليه او الخارجيه، تسمح بتوقع تحسن ملموس لدوره الاعمال بمعدل نمو قد يبلغ، في ارجح السيناريوهات، المعدل المشار اليه.\nواعتبر المركز ان هذا الافق يرتكز في جزء كبير منه علي التوقعات الايجابيه بالنسبه للانشطه الفلاحيه، ويندرج ضمن قطيعه واضحه، متوقعًا ان يبلغ معدل النمو حوالي 5.1 في المائه.\nكما يمكن الاشاره لعدد من التصنيفات الدوليه للمغرب خلال نهايه سنه 2014، منها المنظمه الدوليه لاستطلاعات الراي التي اكدت ان المغرب هو البلد الوحيد في منطقه شمال افريقيا والشرق الاوسط الحاصل علي مؤشر ايجابي (+20) للثقه الاقتصاديه،  كما  تحسن وضع المغرب في مؤشر الوضع الائتماني من "سلبي" الي "مستقر" في تصنيف Standard and Poor’s، وايضًا نشير الي تصنيف مؤسسه ترانبرانسي الدوليه التي اكدت تقدم المغرب بـ11 رتبه بمؤشر محاربه الرشوه ليحتل الرتبه 80 دوليًا. \nوسجل المغرب تقدمًا بـ 16 نقطه في تصنيف مؤسسه "Doing Business" ليحتل الرتبه 71 دوليًا في مجال تحسين مناخ الاعمال حسب التقرير الصادر عن البنك الدولي، كما حافظ المغرب علي التصنيف السيادي في درجه الاستثمار"Investment Grade" في تصنيف مؤسسه FitchRaitings، ونشير ايضًا الي  تقدم المغرب بـ 5 درجات في مؤشر التنافسيه العالميه بالصعود الي المرتبه 72 في الترتيب العالمي، حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول مؤشر التنافسيه. \nونشير اخيرًا الي تقدمًا بـ 38 درجه بمؤشر جاهزيه الحكومات الالكترونيه ليحتل المرتبه 82 عالميًا، حسب التقرير الصادر عن الامم المتحده.\nوقد اثارت هذه التقارير المتواتره والمتقاربه عدد من الاسئله في قراءتها لمسار التحول الجاري اضافه لاستقرار النموذج الاصلاحي المغربي،  مقارنه بما افضت اليه ديناميات التغيير في دول الربيع الديمقراطي، واغرت عددًا من الباحثين الي ضروره فهم اسرار هذا النجاح المتدرج، والذي بات يجترح نموذجًا صاعدًا في الاصلاح والنهوض، ويمكن تركيز عوامل هذا النجاح في اربعه عوامل رئيسيه: الاستقلاليه، الاستباقيه، التعاون، التدرج.\nفالمقصود بالاستقلاليه هنا، استقلاليه النموذج المغربي عما يحدث في الشرق وهذا معطي تاريخي وواقعي ظلت معه الدولة المغربية محافظه علي استقلاليتها السياسيه، كما تعامل المغرب ايجابيًا مع ما يحدث في المشرق، والعالم يتذكر كيف كانت مثلاً حقبه الثمانينات فرصه لتصفيه الحركات الاسلاميه الصاعده (مصر، تونس، الجزائر) في حين استضاف الملك الراحل الحسن الثاني في  صيف سنه 1990 جامعه الصحوه الاسلاميه بالرباط والتي عرفت مشاركه رموز الحركات الاسلاميه. \nكما عمل المغرب علي فتح المجال لادماج الحركات الاسلاميه الاصلاحيه في العمل المؤسساتي علي عكس الدول الاخري التي تعاملت بمنهج استئصالي ولم تفتح هذا المجال الا متاخره ومنها من لم تفتتحه حتي باغتتها الثورات الهادره (تونس، ليبيا)، رغم ما سُجل من تضييق وتشديد للخناق في لحظات معينه. \nوهكذ تجسدت  قناعه المغرب باستقلاليه البناء الوطني والتاريخي عما يحدث في المشرق دون انفصال عن العمق العربي والاسلامي للمغرب والتاثر الايجابي مع الاحداث والمعطيات التي تظهر في المشرق، وقد اتضح هذا المنهج جليًا في تعاطي الدوله مع رياح الربيع الديمقراطي حين تجاوب بطريقه ايجابيه مع الحراك الذي اطلقته تظاهرات 20 فبراير، كما برز هذا المنهج بعد ذلك حين مضت دول المشرق العربي في الانقلاب علي منجزات الربيع الديمقراطي وتم اسقاط الحكومات المنتخبه في تونس ومصر واجهاض الثورات التي لم تكتمل في اليمن وليبيا وسوريا، في حين ظل المسار المغربي محافظًا علي تماسكه واستقلاليته عما حدث تجاه اسلاميي المشرق رغم محاولات بعض القوي السياسيه تقليد الانقلاب المصري، لكنها اصطدمت برغبه الدوله في الاصلاح تكريسًا للاستثناء المغربي.\nظل النظام السياسي المغربي حريصًا في اكثر من محطه تاريخيه علي تجنيب المغرب الوصول الي لحظه "السكته القلبيه"، وفي هذا الاطار جاءت التعديلات الدستوريه التي عرفها المغرب خاصه تعديلات 1992 و1996، وكذا المصالحه التي افضت الي تعيين حكومه التناوب التي تراسها الزعيم اليساري عبد الرحمان اليوسفي، كما تعزز هذا المسار مع اعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكه حين اطلق مسلسل الانصاف والمصالحه التي همت الخروقات والتجاوزات المرتكبه من 1956 الي 1999، بحيث فتح الملفات السوداء للدوله المغربيه وتم الاستماع العمومي للضحايا، كما تم تنفيذ برامج متعدده لجبر الضرر الفردي والجماعي؛ فباتت التجربه المغربيه نموذجيه في العداله الانتقاليه وغير مسبوقه في العالم العربي.\nكما تعززت هذه الاجراءات الاستباقيه باطلاق المبادره الوطنيه للتنميه البشريه والتي توجهت برامجها لمحاربه الفقر والهشاشه - رغم الملاحظات التي تسجل عليها علي مستوي التنفيذ - هذا المنهج الاستباقي عاشه المغرب في عدد من لحظاته السياسيه الفارقه وهو ما جعل الملك محمد السادس بعد اسبوعين من انطلاق تظاهرات 20 فبراير يعلن عن جمله من الاصلاحات السياسيه في خطاب 9 مارس 2011 كان اهمها اطلاق ورش المراجعه الدستوريه الشامله وتعيين هيئه مكلفه باعداد الدستور الذي استمع لعدد من الهيئات السياسيه والنقابيه والمدنيه وتوج بالمصادقه علي دستور 29 يوليو 2011، كما سهر الملك علي نزاهه العمليه الانتخابيه في ظل الدستور الجديد من خلال انتخابات 25 نونبر 2011 التي لم يطعن فيها من لدن الفرقاء السياسيين، كما عبر الملك عن احترامه للدستور حين عين الامين العام لحزب العداله والتنميه في منصب رئيس الحكومه باعتباره الحزب الاول في الانتخابات التشريعيه.\nالتعاون بين الفرقاء السياسيين وبين المؤسسات\nشكّل مفهوم التعاون ارضيه صلبه لتماسك التجربه الاصلاحيه الجاريه في المغرب، فاذا كان الدستور المغربي لسنه 2011 نص في فصله الاول علي ان النظام الدستوري للمملكه يقوم علي اساس فصل السلطات، وتوازنها وتعاونها، فان المتتبع لمنهج الاصلاح السائر في المغرب ولعدد من الاجراءات والخطابات التي سادت في المرحله الراهنه خاصه من طرف الحزب القائد للتجربه الاصلاحيه تجد تفسيرها في سياده منطق التعاون بين جميع الاطراف والمؤسسات، وهكذا نجد تصريحات رئيس الحكومه الذي اكد في اكثر من مره انه "اذا كان المغاربه يريدون رئيسًا يتنازع مع الملك فليبحثوا عن شخص غيري"، وكذا تصريحات وزير الدوله الراحل عبد الله بها والتي تؤكد علي تجنب منطق التنازع مصداقًا لقوله تعالي، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، كما تجسد ذلك في التفاعل الايجابي للملك حين اكد اكثر من مره عن دعمه للتجربه، الشيء الذي اكده رئيس الحكومه بحثه علي ضروره التعاون بين الفاعلين وبين المؤسسات في منتدي دافوس 2015 في يناير الماضي. \nوتجسد هذا المنهج في ترسيخ الديمقراطيه التشاركيه من خلال ما تميزت به المرحله الراهنه من اطلاق حوارات وطنيه غير مسبوقه، لعل اهمها هو الحوار الوطني لاصلاح منظومه العداله والحوار الوطني حول المجتمع المدني والحوار الوطني لسياسه المدينه والحوار حول اصلاح منظومه القوانين الانتخابيه والحوار الاجتماعي مع النقابات.\nتتميز التجربه الاصلاحيه الجاريه في المغرب باعتماد منطق التدرج في اقرار الاصلاحات، فقد تم اعطاء الاولويه للنهوض بالفئات الهشه في المجتمع (برنامج راميد لعلاج المعوزين - برنامج تيسير لدعم التمدرس في العالم القروي - صندوق التكافل العائلي - صندوق التماسك الاجتماعي - الزياده في منحه الطلبه - الرفع من الحد الادني للمعاشات - احداث صندوق للتعويض عن فقدان الشغل ....)، كما تجلي هذا المنهج في التعامل مع اصلاح صندوق المقاصه - صندوق خاص بدعم المواد الاساسيه - بحيث تم رفع الدعم عن المحروقات تدريجيًا، ونفس المنطق يتجلي في التعامل مع اصلاح العداله والاعلام وقطاع الصحه واستغلال مقالع الرمال ورخص النقل والصيد.\nاذن يمكن القول ان هذه العوامل الاربعه تفسر - بدرجه كبيره - الوصفه الاصلاحيه المغربيه الجاريه، لكنها تظل مرتبطه بطبيعه استيعاب الفاعلين لها ولاهميتها، بل احيانًا تكون مرتبطه بطبيعه الاشخاص المتواجدين في موقع القرار، وبدون شك هناك معطيات اخري منها ما يرتبط بالسياق الوطني او بالسياق الاقليمي والدولي ساعدت علي استمرار هذه الوصفه. \nومن جهه اخري يجدر التنبيه الي ان هذه التجربه الصاعده في المغرب بقدر ما تتوفر علي شروط النجاح والرياده ستعطي نموذجًا جديدًا لمشاريع النهوض والتقدم، ومادامت هذه الشروط فالتجربه تتلمس طريقها نحو النجاح والحسم النهائي في الاختيارات السياسيه التي تنحو منحي اصلاحيًا تصاعديًا، غير انها في نفس الوقت لازالت تحمل في بعض زواياها نقط قلق حقيقيه تؤرق الفاعل الاصلاحي ومؤيدي التجربه، وينبه اليها معارضوها، وهذه مساله طبيعيه طالما انه لكل تجربه نجاح اعداء النجاح، كما ان التجربه السياسيه الحاليه تبقي تجربه انسانيه قابله للفشل مثل قابليتها للنجاح. \nوسنتوقف في المقال المقبل مع هذه المخاطر والمحاذير التي تتهدد التجربه الاصلاحيه الجاريه في المغرب.

الخبر من المصدر