رحيل قيثارة فلسطين الأخيرة.. سميح القاسم وداعاً

رحيل قيثارة فلسطين الأخيرة.. سميح القاسم وداعاً

منذ 9 سنوات

رحيل قيثارة فلسطين الأخيرة.. سميح القاسم وداعاً

هل تخيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يوماً وهو في شبابه انه سيعيش كهولته، وان الالاف سيشاركون في تشييع جثمانه في مسيره ترفع خلالها الاعلام الفلسطينيه وتتخللها قراءه اشعاره، وان يغطي صدره بالورد الجوري الاحمر وأغصان الزيتون، وان ترتدي النسوه الاسود وغطاء الرأس الأبيض ويحملن دواوينه، وهن يندبن الشاعر بقولهن «كتبوا اوراق النعي وفرقوها علي البلاد»، وان يرتدي الشبان سترات كتب عليها «منتصب القامه امشي.. مرفوع الهامه امشي» وان الموكب المهيب سيسير وراء علم فلسطيني يمتد لعشره امتار علي وقع كلمات قصيده «سماء الابجديه»،\nكم مره ذكر سميح القاسم الموت في شعره، ووصفه قريبا منه ومن ارضه واهله، وكم مره فقد عزيزاً لم يتركه سوي من دقائق، فربما تخيل الشاعر كثيراً ان نهايته حتماً ستكون تحت الانقاض مثل وطنه كله، وانه لن يتعرف علي جثمانه احد، فدبابات عدوه الصهيوني تهوي الشعر والشعراء، وتفتش عن القصائد والدواوين عند البوابات قبل الاسلحه واوراق الهويه، فسميح القاسم  - الذي غيب الموت جسده قبل ايام - وحبات عقده، محمود درويش وتوفيق زياده وفدوي طوقان، هم من حملوا ارضهم وقضيتهم علي اسنه اقلامهم، فتغني بهم الشعراء فقال لهم نزار قباني: شعراء المقاومه.. سلاماً.\nانا لا احبك يا موت لكني لا اخافك\nوادرك ان سريرك جسمي وروحي لحافك\nوادرك اني تضيق علي ضفافك\nانا لا احبك يا موت لكني لا اخافك  \nهذا هو قوله الاخير قبل ان يواري جسده الثري علي قطعه ارض مرتفعه علي جبل حيدر في بلده الرامه وتشرف علي جبال الجليل وعلي مدينه حيفا وراس الناقوره، وخلال الجنازه  صدحت قصيده له بصوته يصف فيها عزاءه ويقول فيها: «اشكر من قدم لتشييع جثماني.. ولكل الذين اتاحوا لي رفعي علي اكتافهم واولئك الذين حملوا اكاليل الورود.. ماذا اقول؟؟.. وجاءوا لتكريم شخصي الضعيف لهذه الجنازه.. الا عظم الله اجركم اجمعين»، وانطلقت كلمات القاسم بصوته: «قالوا ويوم تغادر روحي فضائي.. لشيء يسمونه الموت ارجو ان لا تفارق وجهي الابتسامه، من المؤكد انه عندما تقدم به العمر وتمكن السرطان من كبده، ادرك انه ربما اتاه ملاك الموت وهو في فراشه فتقدم اليهم بشكره من بعيد».\nويعتبر موت سميح القاسم للاسف نهايه حقبه شعريه من اهم حقب التاريخ الشعري في الوطن العربي، فسميح القاسم احد اهم واشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثوره والمقاومه من داخل الاراضي في عام 48. \n«حسناً لقد حاولوا اخراسي منذ الطفوله ساريهم ساتكلّم متي اشاء وفي ايّ وقت وباعلي صَوت، لنْ يقوي احدٌ علي اسكاتي».\nكانَ والدُ الطفل سميح ضابطاً برتبهِ رئيس في قوّه حدود شرق الاردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم.. وحينَ كانت عائله القاسم في طريق العوده الي فلسطين في القطار، في غمره الحرب العالميه الثانيه ونظام التعتيم، بكي الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا انْ تهتدي اليهم الطائرات الالمانيه! وبلغَ بهم الذعر درجه التهديد بقتل الطفل الي ان اضطر الوالد الي اشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكايه لسميح فيما بعد تركَتْ اثراً عميقاً في نفسه، فظل يقطر حباً وشعراً لوطنه حتي اخر لحظه في حياته.\nولد لعائله درزيه في مدينه الزرقاء يوم 11 مايو 1939، وتعلّم في مدارس الرامه والناصره، وعلّم في احدي المدارس، ثم انصرف بعدها الي نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي قبل ان يترك الحزب ليتفرغ لعمله الادبي، كذلك اسهَمَ في تحرير «الغد» و«الاتحاد» ثم رئيس تحرير جريده «هذا العالم» عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً ادبياً في «الاتحاد» وامين عام تحرير «الجديد» ثمَّ رئيس تحريرها، واسَّسَ منشورات «عربسك» في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنه 1973، وادارَ فيما بعد «المؤسسه الشعبيه للفنون» في حيفا.\n«تقدموا بناقلات جندكم وراجمات حقدكم.. وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا.. لن تكسروا اعماقنا.. لن تهزموا اشواقنا».\nسُجِن سميح القاسم اكثر من مره كما وُضِعَ رهن الاقامه الجبريه والاعتقال المنـزلي، فما كان منه الا ان قال بكل التحدي المقاوم لجحافل الاحتلال التي تصب من جديد جحيم نارها علي غزه: «تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل ارض تحتكم جهنم.. تقدموا.. يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم.. وتسقط الام علي ابنائها القتلي ولا تستسلم».\nاسس سميح القاسم صحيفه «كل العرب» وكان عضواً في الحزب الشيوعي، ورئيس اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تاسيسهما، ورئيس تحرير الفصليه الثقافيه «اضاءات» التي اصدرها بالتعاون مع الكاتب الدكتور نبيه القاسم.\nطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّه بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ اكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه، واشتغل مُعلماً وعاملاً في خليج حيفا وصحفياً، اتسم بالسخاء في ادائه الشعري، وما ان بلغ الثلاثين حتي كان قد نشر ست مجموعات شعريه حازت علي شهره واسعه في العالم العربي تناول فيها الكفاح والمعاناه الفلسطينيين.\nكتب سميح القاسم ايضاً عدداً من الروايات، وصَدَرَ له اكثر من 60 كتاباً في الشعر والقصه والمسرح والمقاله والترجمه، وصدَرتْ اعماله الناجزه في سبعه مجلّدات عن دور نشر عدّه في القدس وبيروت والقاهره، وللشاعر سميح القاسم عدد كبير من المجموعات الشعريه التي بدا رحله اصدارها عام 1958 بكتاب «مواكب الشمس» ليتوالي بعد ذلك صدور تلك المجموعات بوتيره سريعه وبعناوين لافته مثل «اغاني الدروب»، و«دمي علي كفي»، و«دخان البراكين»، و«سقوط الاقنعه»، و«يكون ان ياتي طائر الرعد»، و«رحله السراديب الموحشه»، و«طلب انتساب للحزب»، و«الموت الكبير».\nوكان من بين اهتماماته انشاء مسرح فلسطيني يحمل رساله فنيه وثقافيه عاليه كما يحمل في الوقت نفسه رساله سياسيه قادره علي التاثير في الراي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضيه الفلسطينيه، وله عدد من الاعمال المسرحيه والحكايات والكتب النثريه والبحثيه، فيما تبقي رسائله المتبادله مع صديقه في الشعر والنضال والحياه الشاعر الراحل محمود درويش احد اجمل مشاريعهما الابداعيه.\nوفي خضم مغامراته التجريبيه ابتكر سميح القاسم شكلاً شعرياً يعتمد علي المطولات سماه «السربيات»، وبدا ذلك المشروع بسربيه «ارم» التي صار شكلها العام مدمكاً من مداميكه الشعريه وهو في سربياته تلك يتداعي بشكل حر وتصاعدي دون ان يهتم كثيراً بوحده في الشكل وانما يحاول الاستفاده من كل ما يجده في طريقه الابداعي من حالات واشكال وصور ومعطيات فنيه وموسيقيه.\nتُرجِمَ عددٌ كبير من قصائد القاسم الي الانجليزيه والفرنسيه والتركيه والروسيه والالمانيه واليابانيه والاسبانيه واليونانيه والايطاليه والتشيكيه والفيتناميه والفارسيه والعبريه واللغات الاخري.\nحصل سميح القاسم علي العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضويه الشرف في عدّه مؤسسات.. فنالَ جائزه «غار الشعر» من اسبانيا وعلي جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها الي الفرنسيه الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي.. وحصلَ علي جائزه البابطين، وحصل مرّتين علي «وسام القدس للثقافه» من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعلي جائزه نجيب محفوظ من مصر، وجائزه «السلام» من واحه السلام، وجائزه «الشعر» الفلسطينيه.\nصدَرتْ في العالم العربي وفي العالم عدّه كُتب ودراسات نقديه، تناولَت اعمال الشاعر وسيرته الادبيه وانجازاته واضافاته الخاصه والمتميّزه، شكلاً ومضموناً،  ليحصد كماً من النعوت والالقاب لم تصادف غيره من الكتاب.\nفنري الشاعره والباحثه الدكتوره سلمي الخضراء الجيوسي، تقول: انه الشاعر الوحيد الذي تظهر في اعماله ملامح ما بعد الحداثه في الشِّعر العربي.. وهو كما يري الكاتب سهيل كيوان «هوميروس من الصحراء» اما الشاعره والباحثه الدكتوره رقيه زيدان فتري انه «قيثاره فلسطين ومتنبيها».\nوجاءَ في تقديم طبعه القدس لاعماله الناجزه عن دار «الهدي» الطبعه الاولي سنه 1991 شاعرنا الكبير سميح القاسم استحقَّ عن جداره تامه ما اُطلِقَ عليه مِن نعوت والقاب وفاز به من جوائز عربيه وعالميه، فهو «شاعر المقاومة الفلسطينية» وهو «شاعر القوميه العربيه».\nتوزّعت اعمال سميح القاسم ما بينَ الشعر والنثر والمسرحيه والروايه والبحث والترجمه.. ومن اهم دواوينه: «مواكب الشمس» و«اغاني الدروب» و«دمي علي كفِّي» و«دخان البراكين» و«يكون ان ياتي طائر الرعد» و«الموت الكبير».\nتناول كثير من الدراسات الادبيه اعمال سميح القاسم كان اهمها: «الرساله الجامعيه المتخصصه» التي تناولت حياه سميح القاسم وشعره والتي تقدم بها الطالب خضر محمد ابوجحجوح، بعنوان: «شعر سميح القاسم بين الموقف الايديولوجي والشكل الجمالي»، وحاز عليها الباحث درجه الماجستير في النقد الادبي عام 2002 من البرنامج المشترك بين جامعه الاقصي بغزه، وجامعه عين شمس بالقاهره، وهي رساله قيمه تقع في زهاء 600 صفحه.\nتوفي الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، بعد صراع مع مرض سرطان الكبد الذي داهمه مده 3 سنوات، والذي ادي الي تدهور حالته الصحيه في الايام الاخيره حتي وافته المنيه منذ ايام، ليكون الصفحه الاخيره في شعراء المقاومه الذين خبرناهم وتربينا علي شعرهم، ومن يدري ربما بعده تفتح صفحات جديده تنير الطريق لفلسطين واهلها.\n«غداً ياتي النهار.. وينحني السجان في انبهار.. ويرتمي.. ويرتمي معتقلي.. مهدماً.. لهيبه النهار».

الخبر من المصدر