الجامعة.. خطوة أولى!

الجامعة.. خطوة أولى!

منذ ما يقرب من 13 سنة

الجامعة.. خطوة أولى!

بقلم: د. حلمي محمد القاعود عقب انهيار النظام البوليسي الفاشي استردت الجامعة المصرية بعض العافية. خرج الحرس الجامعي، وعادت الجامعة كيانًا مدنيًّا هادئًا بلا تشريفة عسكرية.. وخرج جهاز أمن الدولة (السافاك المصري)، واستراح الناس من تدخلات مشينة في شئون أهل العلم والطلاب بما لا يليق بأمة متحضرة.. وأجرت الجامعة لأول مرة منذ عقود انتخاباتٍ طلابيةً نزيهةً وشفافةً، شارك فيها الطلاب المنتمون إلى القوى السياسية المختلفة.. ثم كان مشروع القرار الوزاري بإعادة المادتين 121، 122 من قانون الجامعات إلى وضعهما السابق الذي يجعل الأساتذة المتفرغين مستمرين في تفرغهم إلى نهاية العمر، أو الخروج حسب رغبتهم، وكان ذلك تصحيحًا لأوضاع انتقامية صنعها بعض الوزراء السابقين، أتاحت لبعض أعضاء هيئة التدريس من الدخلاء على محراب العلم أن ينكلوا بأساتذتهم، وأن يمارسوا نوعًا من الإهانة لا يليق في هذا المحراب العظيم! كل هذا خطوة أولى على الطريق الصحيح لاستعادة الجامعة مكانها ومكانتها في الواقع الاجتماعي والحضاري للأمة المظلومة.   وكنت أتمنى أن يكون وزير التعليم العالي الحالي، الذي أقيل من قبل في ظروف غامضة لا أعرفها تمامًا، أن يكون منحازًا بوضوح قاطع إلى الجامعة أكثر من انحيازه إلى النظام القديم الذي كان معاديًا للجامعة وكارهًا للعلم، ومحتقرًا للعلماء!   وأسمح لنفسي أن أحكي قصةً قديمةً تكشف عن التفاوت بين رؤية الوزير، ورؤية رئيس جامعة سابق.. هو الدكتور مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة الأسبق، ولعل له صلة قرابة بالوزير الحالي الدكتور عمرو عزت سلامة، كانت للدكتور مأمون مواقف مضيئة، مع أنه كان يعمل في ظل النظام البائد وأجهزته القمعية البشعة، ومنها موقفه عندما أراد بعض أتباع السلطة البوليسية الفاشية من الأساتذة ترقية واحد منهم ترقية إدارية بقوة الذراع عبر موافقات القسم ومجلس الكلية، بعيدًا عن رأي لجنة الترقيات التي رأت أن صاحبهم لا يستحق الترقية..   ولأن مأمون سلامة كان رجل قانون يتعامل بمنطق القاضي، فقد اختار أستاذًا متخصصًا مشهودًا له بالأمانة والكفاءة العلمية، وأسند إليه سرًّا تقويم أعمال المطلوب ترقيته، فكتب الرجل تقريرًا يؤيد ما وصلت إليه لجنة الترقيات، بل اكتشف عوارًا كبيرًا ونقصًا شنيعًا في المستوى البحثي في الأعمال المعروضة للترقية, ولم يأبه مأمون سلامة بالإرهاب الصحفي والإعلامي الذي مارسه أعوان النظام السابق من خلال الصحف وأجهزة الدعاية التي كانوا وما زالوا يهيمنون عليها، واتخذ القرار الذي أملاه الضمير العلمي، ولم تفلح محاولات لي الذراع!   المفارقة أن الدكتور عمرو لم يقتد بالدكتور مأمون ولم يسلك المسلك الذي تفرضه المرحلة، مع أنه جاء ليقوم بعملية تصحيح في الواقع الجامعي، بعد أن صارت الجامعة المصرية خارج أي تصنيف دولي أو إقليمي، وعمرت بكثير من المشكلات والعاهات، وأضحت ملعبًا لجهات القمع والفاشية وأتباع جهاز الأمن (السافاك )، وقام بقيادتها وإدارتها الموالون لهذا الجهاز في الأغلب الأعم، أو المحايدون في القليل النادر؛ الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً!   لقد بدا الوزير متردداً، وكأنه محكوم بأمن الدولة الذي سقط ولم يذهب بعد، وترك من جاء بهم الأمن يمارسون منهجهم القديم، واشتعلت النار في أكثر من مكان، ولعل أبرزها ما جرى في كلية الإعلام بالقاهرة، من اعتصامات ومظاهرات، وملاسنات عبر القنوات الفضائية، وانقسامات بين الأساتذة، وفصل لبعض الطلاب، وإحالة لبعض الأساتذة إلى مجالس تأديب، وشلل في العملية التعليمية وخاصة في الدراسات العليا.. وكان يمكنه حسم المسألة من البداية بإقالة العمداء موضع الخلاف ورئيس الجامعة الذي انحاز لطرف دون الآخر، أو الإعلان عن انتخاب عمداء جدد مؤقتين، وتعيين أحد نواب رئيس الجامعة للقيام بعمله مؤقتا حتى يتم تغيير القيادات، وإحلال قيادات أخرى جديدة على أسس متفق عليها.   موقف وزير التعليم العالي يشير إلى أنه – فيما يبدو - ليس معنيَّا بحلول عملية لتراث متراكم من الفساد والانحراف، قاد الجامعة إلى المحنة التي ما زالت تعيشها في ظلال رجال الأمن ( السافاك ) الذين آثروا المناصب والغنائم على الواجب الذي يفرضه الضمير والعلم والمستقبل.   إن البحث عن حلول عملية يفرض التعامل مع الأساتذة الذين لم يدخلوا تحت عباءة الأمن بقدر كبير من التفاهم والتسامح، لأنهم لم يخونوا الوطن أو المعرفة، وكانوا حريصين في ظل النظام البوليسي الفاشي على رفع راية العصيان ضد سرقة الجامعة؛ سواء كانوا في تنظيمات جماعية أو قاموا بواجبهم بشكل فردي مستقل..   سأضرب مثلين بإيجاز شديد لبعض القيادات التي جعلت ربها الأعلى ضابط الأمن الذي كان يسكن في قلب الجامعة، أو النظام البوليسي الفاشي الذي كانت روحه تغشى الأساتذة العملاء، فتعميهم عن الحق والحقيقة، وتضعهم في خانة غير جديرة بهم..   المثال الأول لرئيس جامعة سابق في إحدى الجامعات الإقليمية، صادف ـ وهو يهبط سلم الإدارة لافتتاح أحد مشروعات الجامعة ـ  ضابطًا صغيرًا في عمر أولاده برتبة نقيب، فقال له في ذلة وخنوع: أنزل أم أصعد ؟ يقصد إن كان الضابط يريده أو لا. فنظر إليه الضابط مستغربًا، وقال: اطلع أو انزل.. أنت حر! ومضى الضابط تاركًا صاحبنا يفتش في رأسه عن مغزى كلامه!   المثال الآخر لمدرس قديم في إحدى الجامعات الإقليمية أيضًا، حصل على الدكتوراه بطريقة ما منذ عشرين عامًا، وكان منذ شبابه وهو طالب في الجامعة يكتب تقارير أمنية عن زملائه وأساتذته حتى صار مدرسًا وعضوًا في أحد المجالس النيابية والحزب الوطني، وأصبح نفوذه يفوق نفوذ رئيس الجامعة نفسه، فقد ضُبط سارقًا لكتاب بأكمله حرفيًّا، وقد وضع عليه اسمه بعنوان آخر، ونشرت الصحف، وتحدث الناس عن هذه الجريمة النكراء التي تذهب بصاحبها إلى السجن والطرد من الجامعة، ولكن العجيب أن يستدعيه رئيس الجامعة ليس لمحاسبته وتقديمه لمجلس تأديب كما يقضي قانون الجامعة، ولكنه استدعاه ليناقش معه كيفية مواجهة أصحاب الاتهام ؟!   الأمر يستدعي من وزير التعليم العالي مواقف حاسمة يعلنها بصراحة ووضوح، ولا يلقيها في مرمى الأساتذة مع التسويف والغموض غير الخلاق، وذلك من أجل إصلاح الخلل الذي يفسد التعليم والمعرفة والأخلاق جميعًا!   إن أفضل الحلول كما أتصورها، تحبذ الخطوات التالية: أولاً: إجراء انتخابات في المستويات الإدارية الثلاثة في الجامعة، وهي رئاسة القسم، والعمادة، ورئاسة الجامعة. وأيًّا كان القول عن سلبيات الانتخاب من تكوين شلل ومحاباة وغير ذلك، فهي أهون من التعيين وكوارثه، وخاصة إذا لجأ صاحب القرار إلى جهاز الأمن الوطني ( أمن الدولة المنهار!).   ثانيًا: وضع حد أقصى لدخل رؤساء الجامعات، وما يحصلون عليه من الموارد المتنوعة، لوقف التقاتل على المنصب من أجل عائده، وليكن المنصب نوعًا من التكريم العلمي والأدبي لصاحبه ليس إلا.   ثالثًا: هز الجهاز الإداري في الجامعات، وخاصة في الجامعات الإقليمية، فقد تورم هذا الجهاز، وافتقد كثيرًا من التقاليد الجامعية، ومع كثرة الموظفين فقد صار انتقال ورقة من مكتب إلى مكتب مجاور يستغرق شهورًا أحيانًا، وصارت البلادة حاكمًا لحركة الجهاز الإداري، ويمكن أن تجد مشكلة صغيرة تبقى سنوات لأن الموظف المختص لا يريد حلها اعتمادًا على تفسير بند في اللائحة أو تعللاً بذريعة واهية.. مع ملاحظة أن موظفي الإدارة من أسعد الموظفين حالاً في الدولة!   رابعًا: إن حل مشكلة مرتبات الأساتذة يجب أن يحظى بأولوية تعيد للأستاذ كرامته وهيبته، وتنزع مسوغ الانحراف عن بعض أعضاء هيئات التدريس الذين يلجئون إلى الدروس الخصوصية أو سرقة كتب الغير، أو فرض مذكراتهم الرديئة على الطلاب بالقوة. ولا يجوز أن يكون مرتب الفراش في أحد البنوك الاستثمارية أو بعض شركات قطاع الأعمال أفضل من مرتب عضو هيئة التدريس.   خامسًا: حل مشكلة الكتاب الجامعي بتولي الكليات اختيار الكتب المناسبة وطبعها وتسويقها بالسعر المدعوم أو الملائم، وتحديد مكافأة ثابتة لعضو هيئة التدريس وفقًا للدرجة العلمية؛ عوضًا عن كتابه، وصرفها على مدار العام مع المرتب. وفي المقابل يحرم على العضو أن يقرر من جانبه أي كتاب أو مذكرة.   هذه بعض الخطوات الأخرى التي أتصور أنها تنهض بالجامعة، وتقلل إلى حد كبير من الخلافات والشقاقات والنزاعات والفضائح التي تملأ أنهار الصحف أحيانًا أو غالبًا، بالحق أو الباطل. ------ * "المجد" في 21/5/2011م.

الخبر من المصدر