د.يحيى مصطفى كامل يكتب: جمهورية ريا و سكينة !

د.يحيى مصطفى كامل يكتب: جمهورية ريا و سكينة !

منذ 13 سنة

د.يحيى مصطفى كامل يكتب: جمهورية ريا و سكينة !

Select ratingإلغاء التقييمضعيفمقبولجيدجيد جداًممتاز  د.يحيى مصطفى كامل أحياناً نخشى الحقيقة كونها شديدة القبح مرعبة...أحياناً نحتال على أنفسنا و نغمي أعيننا بايدينا حتى لا نراها...يصلنا طرفٌ منها فإما نسمع الحكايات كبقية الناس أو نحتك يشخص ٍ اكتوى بها مباشرةً...نحدس بهولها  إلا أننا لا نعرف بالضبط مقدار بشاعتها.ليس من مصري لم يسمع عن جهاز أمن الدولة المريع المتشعب كالأخطبوط و الذائع الصيت منكر السمعة؛ الكل يعلم أنه تغول حتى صار سمةً أساسيةً  من سمات العصر الأسود، إلا أن أحداً ممن لم تطله أياديهم البيضاء لم يكن  ليتصور حجم إجرامهم إلا في أعقاب اقتحام بعض مقارهم و افتضاح بعض ملفاتهم.إنني أعتقد أن حكاية أمن الدولة في عهد مبارك هي روح هذا العصر البليد الكئيب و المفتاح لفهمه.دعونا نرى. لعل مصر لم تعرف عصراً من الركود الغبي كعصر مبارك؛ فالرجل كان جد سعيداً باتفاقيات السلام و الغبن مع العدو الصهيوني لم يلمسها و تشبث حتى الرمق الأخير بتقرير السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب كما لو كان نبوءة، أما طابا فقد سقطت في حجره و لم يسع هو إليها... يعني تسلم مصر بتاريخها و قدراتها تسليم مفتاح، و يا لها من صدفةٍ كئيبة، فالرجل الذي كان يبحث عن وظيفةٍ تكون بمثابة تقاعدٍ مريح حبته التصاريف و الأصابع العابثة بعزبة أو وسية إسمها مصر ليستريح فيها، أو على الأقل هكذا تعامل معها.المشكلة الأفدح أن للرجل تركيبةً خاصة و فريدة،  فهو يجمع بين شح الذكاء و العند الغامر المخلوط بالبلادة ، كما حبته الطبيعة ( أو الغباء) بالهدوء الأسطوري و مقدرة مدهشة على التحكم في أعصابه لا يتحلى بها سوى عتاة المجرمين و القتلة الجماعيين الأسطوريين!و على ما ترون فهي تركيبةٌ مزعجة وسامة، طبعاً هذا بالإضافة إلى صفاتٍ ثانوية لكنها مهمة مثل أن الرجل اشتهر بالجهل السياسي أثناء خدمته العسكرية ، ولاحقاً بكراهيته و نقمته على المثقفين.لم يتلقن الرجل سوى درسٍ واحدٍ ملخصٍ في السياسة : إذا اردت أن تستمر فأطع السيد الأمريكي و أرِح  إسرائيل . الشهادة لله، لم يثنها الرجل كلمةً!لكل ما تقدم فالرجل بلا مشروع و لا رؤية وطنية يعاني من ضمورٍ حادٍ في ملكة التفكير و مفاهيمه عن العمل السياسي و الوطني شبه منعدمة، بل و لاترقى حتى إلى مستوى طالب ابتدائي من أولئك الذين أفسد لهم المناهج التعليمية، و لذا فقد عقد العزم و قر قراره على هدفٍ وحيدٍ و بسيط، بل بدائي: البقاء..البقاء مهما كان الثمن و حلب هذه العزبة.بلا مشروع قومي بلا وجع دماغ!في سبيل ذلك اصطنع طبقة من المنتفعين و السماسرة و استجاب لحمى بيع كل ما يمكن أن يباع من ممتلكات هذا الشعب و الإثراء الذي لا يعرف الشبع أو التخمة ...يعني وصفة  البنك الدولي إياها التي لا يعزها عن إي ٍمن طغاة العالم الثالث.الأهم بالنسبة لنا هنا أن الرجل استجابةً لانضباطه وقسوته و حسه الأمني الحاد ( و لسوء حظنا!) اقترن بجهاز أمن الدولة في زيجةٍ كانت وبالاً و نحساً علينا، و لأن خير ربنا كثير فقد أضاف إليها كام جهاز آخر لتأمين فخامته. المشكلة أنه في بلدٍ حكومته امتدادٌ و انعكاسٌ للجالس على الكرسي و لو كان قرداً صار هذا الجهاز يتسم يكل صفاته من القسوة إلى البلادة إلى الجهل إلى العناد..لم يكن هذا الجهاز حنوناً أبدا ً في العهود السابقة ، إلا أن التوحش و التغول الكمي و الكيفي في عهده لا مثيل له، وبذا فقد دُشنت هذه الحقبة التي كان عنوانها قِران رأس المال و المصالح الاقتصادية و النهبية مع أجهزة أمنٍ لا تني تتضخم.و عم الكابوس و الظلام... لقد سيطر هذا الجهاز على شتى المرافق حتى لم تعد الحكومة و الوزارات سوى هياكل تتلقى الأوامر من فوق فتنفذ في ظل السيف..الدولة دولته، و هي دولة القلة المنتفعة والرعب و التعذيب و الدم المجاني؛ الكل خائف و يجب أن يخاف، فالخلفية ملطخة بالدم و لا أحد يريد أن ’يأخذوه‘ حيث يذهب الكثيرون فلا هم يُعرف لهم مكان و كثيراً ما لايعودون...دولة مجرمة و قاتلة.سلخانة...لعلها أبسط و أوقع كلمة تصف هذا الجهاز المتوحش، و ما أشبهه بالسفاحتين ريا و سكينة و شلة الرجال المتحلقين حولهما! نفس الإجرام البليد؛ إن أباطرة هذا الجهاز يصولون و يجولون في طول البلاد و عرضها يرهبون و ينهبون  و يقبضون مرتباتٍ خرافية و يسمسرون؛ يتسربون إلى كل شيء مع الهواء الذي أفسدوه حتى أنتن... يسجنون و يعذبون...يقتلون حين يعن لهم ذلك و يدفنون الناس تحت الأرض...و ما المشكلة في ذلك؟! كلابٌ تموت و لا مسائل و لارقيب.كم تعجب الكثيرون أمام إجرامهم الذي تشيب له الولدان، ولكن إذا فهم السبب انتفت الدهشة: إن هؤلاء الجلادين لا يفهمون معنى كلمة ’إنسان‘ناهيك عن حقوقه...إنها كلمات لا تساوي حتى مزحةً ثقيلة؛ محض رطن بلغةٍ أجنبية غير مفهومة بتاتاً...الناس بالنسبة لهم أشياء، مواضيع عمل و ملفات ليس إلا، و بالتالي فلا قيمة لها إطلاقاً.كانت الأمور لتهون لو انها توقفت عند هذا الحد، لكن للأسف فما هذا سوى البداية، إذ بهذه العلاقة  الدنسة بين مبارك و جهازه المفضل و المجبولة من الدم و الفولاذ شرع هذا الجهاز يعيد   تشكيل و صياغة الوعي و هندسة المجتمع ليأتي  على شاكالته قسوةً و بلادةً و إجراماً و جهلاً، مجتمع لا قيمة فيه لأية قيمة و البقاء للأقوى و الأشرس...جهازٌ مسخ يصنع مجتمعاً مسخاً...وحشٌ يصنع وحشاً...ليست مفارقةً إذن أن نظام مبارك لم يبن  و لم ينجز  شيئاً سوى البلطجية بعشرات آلافهم حيث أضاف إلى المجتمع  المصري بشكله التقليدي طبقةً عريضةً من المجرمين المتداخلة مصالحهم مع النظام يعيشون كأبشع حشرة طفيلية على الشعب الممصوص دمه و المنهك حد الموت من الأساس، طبعاً مع الاعتراف بأن إجرامهم، بل إجرام أعتى قاطعي الطريق لا يرقى إلى مستوى البطش و الجريمة الممنهجة التي يتفوق فيها امن الدولة و يمتاز...يا لها من منجزات!لكن لأن حكاية تغول أمن الدولة حكاية من عصر مبارك، وبذا أتت على شاكلته، فقد سقطت نتيجة نفس السمات الأساسية التي ذكرناها من قبل و هي البلادة و الجهل...لم يفهموا المعادلة البسيطة أنه كلما زاد الفقر و القهر زاد التذمر و الغضب و كوامن الثورة، بغض النظر عن كون الشعب المصري مسالماً؛ لم يفهموا مغزى الاحتجاجات والاعتصامات المتزايدة،و لأن جهلهم غذى ثقتهم في نفسهم، تصوروا أن العصا و الكرباج علاجٌ لكل شيء و أن الحل يكمن في المزيد من الضرب حتى  صار البلد كحلة البخار يغلي تحت الضغط ... لم يروا الثورة و هي تتشكل أمامهم ،أما حين حاصرتهم فعوضاً عن أن يعملوا بالمثل الشعبي’يا حيطة داريني‘ فيكتفوا بفرم الأوراق شرعوا في إحراقها أيضاً بينما الثوار يراقبونهم و يتحينون سقطاتهم!أي أنهم ’ ما قفشوهمش و هما بيعذبوا و يقتلوا قفشوهم و هما بيحرقوا‘حين أتأمل الثلاثين عاماً الماضية في ضوء شلال الحقائق التي لا تتوقف يبدو لي مبارك و جهازه أكثر تخريباً مما فعله بنا المستعمر  حديثاً و من حروبنا مع إسرائيل و من أسوأ كارثةٍ طبيعية. ما كان المستعمر، على بطشه، ليعاملنا كالجيف على النطاق الذي فعله مبارك أما حروبنا مع إسرائيل فقد استنفرت أروع ما في شعبنا لحمةً وطنيةً و حرباً و صموداً و فناً و فكراً...لم يتسلل أحد إلى نسيج مصر مفسداً كما فعل مبارك و تشكيله العصابي؛ جرحتنا و أدمتنا إسرائيل و لم تهزمنا، و لكن حسني مبارك هزمنا و كسر نفوسنا طوال الثلاثين سنةٍ الماضية حتى أنقذتنا ثورتنا..لقد كان و عصابته كالطاعون أتوا على مصر فلم يذروا....لقد أتت هذه الثورة العظيمة لتحررنا و تنقذنا من ضعة الكلاب و الأشياء التي فرضها علينا مبارك و تشكيله العصابي من الزبانية و الجلادين و لتعيد إلينا الروح و الوعي و الكرامة. بصراحة شديدة، وبعد ان فضح ما فضح و أن رأينا ما رأينا، إني لأعدها صفاقةً حين يتعاطف أحدهم  و يصطنع الأعذار للنظام السابق أو يسعى إلى تسول دمعةٍ منا على قاتلٍ مجرم ٍ شيخ منصر لمجرد أنه فوق الثمانين كما لو كانت جرائمه تسقط بالتقادم.هاجسٌ واحدٌ يؤرقني و يرعبني: لقد اقتحم الثوار بضعة مقار لأمن الدولة و رأينا طرفاً من جرائمهم بالإضافة إلى الإطاحة أو التضحية بعددٍ من القيادات و الأسماء المعروفة...ترى، ما كم المتبقي من هذه السلخانة؟ هل ما زالت أطراف الأخطبوط الباقية قادرة على الانقضاض على الثورة؟! لا بد من تعقب بقية الأطراف. لا بد من محاكمتهم.باسم كل الذين عُذبوا لا بد من محاكمتهم.باسم كل من ضاع عمره في غياهب محابسهم لا بد من محاكمتهم.باسم كل من فقد أحلامه لا بد من محاكمتهم.باسم كل من أفسدوه فصنعوا منه جاسوساً على إخوانه لا بد من محاكمتهم.باسم كل من قُتل و فُقد و مازال اهله يبحثون عنه لا بد من محاكمتهم.

الخبر من المصدر