المحتوى الرئيسى

ما بعد الربيع السوداني؟!

08/25 14:01

عام ٢٠١١ كان عاما فارقا في حياة منطقة الشرق الأوسط، ومن المرجح العالم أيضا. ورغم أن "الثورة التونسية" كانت قد بدأت في نهايات عام ٢٠١٠ فإن استكمالها جرى في العام التالي، وعندما قامت الثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١ فإن مسلسلا كاملا من الثورات والأعاصير جرت في العديد من دول المنطقة. كانت البدايات دائما مبشرة بالشباب والزهور والآمال العريضة والرغبة في التقدم، إلا أن النهايات كشرت عن أنياب عواصف وحروب أهلية وركود اقتصادي وسيطرة وهيمنة من جماعات الإسلام السياسي والإرهابي أيضا. ما جرى بعد ذلك يمكن أن نرى آثار خرائبه في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وثمنه الثقيل في دول عربية أخرى كان عليها أن تنحني للعاصفة وتتبنى سياسات لم تكن بالضرورة مفيدة للدول التي طبقت فيها. الثورات وتوابعها أوقفت عجلة الإنتاج، وتنفيذ الكثير من التعهدات الدولية، وبشكل ما فإن الدولة التي عرفت هذا النوع من الربيع عاشت نوعا من الشلل السياسي والاقتصادي، بينما جرت في الوقت نفسه ضغوط هائلة من المطالبات بزيادة الأجور، والعمل في المؤسسات العامة وهي زيادة أخرى في مجمل أجور غير منتجة، ومع ذلك ارتفع العجز في الموازنات العامة، وانهيار في سعر العملة المحلية. حل هذه المعضلات جميعها كان يأتي في الموجة الأولى من خلال اتهام فساد النظام القديم بالمسؤولية، ومن ثم فإن اعتقال الفاسدين والاستيلاء على أموالهم سوف يحل المعضلة الاقتصادية. في الواقع العملي فإن ذلك لم يكن يعني الكثير حتى ولو كانت التكلفة أكثر بكثير مما جرى جمعه. وفي مصر فإن عشرات الملايين من الدولارات أنفقت على لجان حكومية وشعبية سافرت إلى عواصم العالم المختلفة لكي تستعيد المليارات من الدولارات المفقودة ولكنها لم تعد بدولار واحد. الموجة الثانية جاءت مع التغيير الفعلي لنظام الحكم، والتصور أن الدولة الدينية أو ذات الغطاء الديني هو الذي سوف يقيم المعوج ويصلح المكسور؛ وفي مصر ظهرت جماعة الإخوان المسلمين، وفي تونس جماعة النهضة، وفي سوريا جماعة النصرة، وفي دول عربية أخرى ظهر ذلك تحت أسماء أخرى.

هذه الموجة لم تكن نهاية الثورات، وإنما تلتها ثورات أخرى بعضها كان هائلا من حيث المليونيات المشاركة مثل ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ في مصر، وبعضها كان متواضعا وإنما لا يقل تأثيرا من حيث تكوين موجة ثالثة تدرك عدة أمور: أولها أن النظم السابقة والتي أطيح بها وصلت إلى طريق مسدود، وطعنت قياداتها في السن، وأنها فقدت القدرة على قيادة البلاد. وثانيها أن طريق التقدم والعمل الفعلي في سبيله يكون من خلال الإصلاح الذي يعني التواضع في تقدير الأمور، والاستعداد لعملية تنموية تدريجية طويلة الزمن، وإنما مؤكدة التأثير الإيجابي كما كانت التجربة في الدول التي سبقت في التقدم. لم يعد ضروريا إعادة اختراع العجلة لأن العجلة جرى اختراعها منذ وقت طويل. وثالثها أن الشعوب ينبغي وضعها في الحساب لأنها قوة كبيرة وهادرة، وأن مائة وخمسين ألفا منها تتحرك معا تكفي لتغيير أمور كثيرة، ربما لا تكون دائما خيرة، ولكن التغيير يفرض في كل الأحوال.

موجة الإصلاح هذه سرعان ما أصبحت البديل لفكرة الثورة، ومست بسرعة ليس فقط الدول التي جرت فيها الثورات بل دولا عربية أخرى إما أنها لم تعرف إلا القليل من مظاهر الربيع المغدور، وإما أنها لم تعرف أيا منها على الإطلاق، وكانت حكمة القيادة السياسية هي التي توصلت إلى أن بقاء الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية على حالها لا يمكن استمراره.

ولكن أحداث ٢٠١١ وما ولدته من تفاعلات كثيرة ظلت مؤثرة في المنطقة حتى نهاية عام ٢٠١٨ عندما تولدت "ثورة ديسمبر" السودانية واستمرت خلال الأشهر التسعة التالية، وبالتوازي معها تقريبا جرت ثورة أخرى في الجزائر، ظهر معها أن توابع "الزلزال" الأول لا تزال فاعلة. كانت الحالة في السودان مختلفة عن بقية الثورات العربية الأخرى فقد جرت ضد حكم الإخوان المسلمين الذي تولى السلطة في الدولة السودانية عام ١٩٨٩ بقيادة ائتلاف حسن الترابي وجعفر البشير في البداية ثم استئثار الثاني بالسلطة معتمدا على الجماعة وأفكارها وأدواتها الإعلامية في إدارة دولة فاشية ومتصادقة مع الإرهاب الدولي. نجحت الثورة بعد ولادة متعسرة بدا فيها الأمر أن النضال ليس بين أنصار الدولة المدنية والإخوان، وإنما بين هؤلاء والقوات المسلحة السودانية. ظهر النجاح في ثلاثة أمور: أولها أن القوى السياسية المختلفة من مدنيين وعسكر قادرة على التوصل إلى حلول وسط، وهو ما ظهر في تشكيلات المجالس الثلاثة؛ السيادي والوزراء والتشريعي. وثانيها أن هذه الحلول أعطت كل طرف ما قدر له سياسيا، فكانت للعسكر مكانة أعلى قليلا في المجلس السيادي، أما النفوذ الكامل فكان للمدنيين في الوزراء والتشريعي. وثالثها أن تعيين الدكتور عبدالله حمدوك رئيسا للوزراء وخطاب تعيينه الأول كانت فيه إشارات واضحة إلى منهج إصلاحي يدعو إلى مجتمع إنتاجي، ودولة تعتمد على نفسها وليس على المعونات والهبات، وأن السودان بلد غني بموارده وأهله والمطلوب أن يتحول هذا وذاك إلى قوة دفع كبيرة للدولة السودانية على مسار التقدم. هذه كلها أمور مبشرة، ولكنها لا تعني وصول الربيع السوداني إلى بر الأمان، فما زال استكمال المؤسسات باقيا، وجذب القوى التي لا تزال خارج الاتفاق إلى داخله مطلوبا، وإدراك الشعب السوداني أن الثورة كانت أمرا والبناء أمر آخر له ثمن كبير، وهو ليس نزهة وإنما جهد وعرق.

هل مع وصول الربيع السوداني إلى محطته هذه يعني نهاية الظاهرة التي بدأت منذ عقد من الزمان، والإجابة "ليس بعد". فلا يزال "الربيع الجزائري" بعيدا عن محطته النهائية؛ وكما أنه ثبت من تجربة عقد أن لكل ربيع خريفا فإن من لم يسيروا بعد في طريق الربيع الساخن هذا لا بد لهم أن يستمروا في سبقه بالعمليات الإصلاحية العميقة التي تغوص في البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أيضا. أما الذين لم يصلوا لا إلى الثورة أو الإصلاح فإن ذلك ربما تكون فيه الكارثة، لأن الحالة الصومالية أو اليمنية لن تعطي منفذا للتغيير لا السياسي ولا الاقتصادي وإنما هو السقوط في غياهب جب لا يعرف أحد له قرارا. في الدول التي خرجت من التجربة فإن بناء الدولة الوطنية هو جوهر القضية التي بدونها تكون كل القضايا الأخرى محض تفاصيل، فعودة الدولة المصرية الوطنية كانت الخطوة الأولى نحو ما أتى بعد ذلك من خطوات، وظهور الدولة الوطنية السورية مرة أخرى بعد أن كادت تضيع على يد الائتلافات الثورية المفككة هو الذي وضع مؤشرا على أن الدولة السورية ولدت لتبقى، وسعي الدولة العراقية باندماج قوات الحشد الشعبي داخل القوات المسلحة العراقية هو بشارة عودة العراق مرة أخرى إلى الحياة. الإصلاح بعد ذلك هو التعميق المباشر للدولة الوطنية وتحويلها من وعاء لمواطنين إلى حاضنة لشعب متقدم وقادر على الحياة والمنافسة في عصر وعالم جديد.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل